سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)
هل يدخل الطاعون والوباء مكة والمدينة؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلاَ الدَّجَّالُ» . وفي لفظ: «لاَ يَدْخُلُ المَدِينَةَ المَسِيحُ، وَلاَ الطَّاعُونُ». أخرجه البخاري ومسلم
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «المَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ المَلاَئِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلاَ يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ» قَالَ: «وَلاَ الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ الله». أخرجه البخاري.
دل الحديثان على خصوصية للمدينة، وهي أنه لا يدخلها الطاعون.
وورد أنَّ هذه الخصلة أيضًا من خصائص مكَّة. فقد جاءت زيادةٌ في حديث أبي هريرة بذكر مكة، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال، ولا الطاعون).
أخرجه الإمام أحمد في المسند (ط الرسالة: (16/ 184)، لكن إسناده ضعيف. وقال ابن كثير في البداية والنهاية ط هجر (19/ 189): (هَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَذِكْرُ مَكَّةَ فِي هَذَا لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، أَوْ ذِكْرُ الطَّاعُونِ، وَالله أَعْلَمُ) . وانظر: الأحاديث الواردة في فضائل المدينة (168) للرفاعي.
وأيضًا قد دخل الطاعون المشهور في القرن الثامن: مكة، وتواتر النقل بذلك كما نقله ابن حجر في بذل الماعون (379).
وأمَّا ما أخرجه البخاري (2643) من طريق عَبْد الله بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، قَالَ: أَتَيْتُ المَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ وَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ، فَمَرَّتْ جَنَازَةٌ، فَأُثْنِيَ خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِيَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ، فَأُثْنِيَ شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ»، قُلْنَا: وَثَلاَثَةٌ، قَالَ: «وَثَلاَثَةٌ»، قُلْتُ: وَاثْنَانِ، قَالَ: «وَاثْنَانِ»، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ.
فهل يدل هذا الحديث على وقوع الطاعون بالمدينة أيضًا؟ وهل بين الحديثين تعارض!، فما الجمع.
فيه جوابان مشهوران:
الجواب الأول: ما قاله بعض العلماء بأن الطاعون المنفي نوع خاص منه.
كذا أجاب القرطبي في المفهم عن ذلك فقال: المعنى لا يدخلها مِنَ الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عُمواس ، والجارف!.
قال ابنُ حجر معلِّقًا: (وهذا الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة ! وليس كذلك، فقد جزمَ ابنُ قتيبة في المعارف وتبعه جمعٌ جمٌّ من آخرهم الشيخ محيي الدين النووي في الأذكار بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا). انتهى من الفتح.
وقال ابنُ حجر أيضًا في بذل الماعون (104): (وأما الطاعون فلم ينقل قط أنه وقع بها ، من الزمان النبوي إلى زماننا هذا ، و لله الحمد).
وقد تعلّق بعضُ أصحاب هذا القول برواية البخاري السَّابقة من حديث أنس: (فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى).
فقيل : الاستثناء: للتعليق ، وهو مختص بالطاعون ولا يشمل الدجال فلا يدخلها مطلقًا، ومقتضاه : جواز دخول الطاعون المدينة.
وقيل : الاستثناء : للتبرك ، وهذا أصح ، ورجَّحه ابنُ حجر في الفتح.
والجواب الثانــي: أن النفي على إطلاقه وأنَّ الطاعون لا يدخُل المدينة.
وأما الحديث السابق في البخاري، فهو صريح في دخول الوباء إلى المدينة، ولا تعارض لأنَّ الوباء أعم من الطاعون.
قال ابنُ حجر في بذلِ الماعون (103 وبعد) : لو كان الطاعون هو الوباء لتعارَضَ الحديثان ، لكن لا تعارض بينهما؛ لأن الطاعون أخصّ من الوباء ... و قد ظهر بما أوردتُه أنَّ الطاعون أخصّ من الوباء ، و أن الأخبار الواردة في تسمية الطاعون وباء ، لا يلزم منه أن كلَّ وباء طاعون ، بل يدل على عكسه، و هو أنَّ كل طاعون وباء، لكن لما كان الوباء ينشأ عنه كثرة الموت ، وكان الطاعون أيضًا كذلك ، أطلق عليه اسمه .
و يفارق الطاعون الوباء : بخصوص سببه الذي لم يرد في شيء من الأوباء نظيره ، و هي كونه من (طعن الجن). [قلت: وهو في أحاديث ترتقي للحجية، سردها ابن حجر في البذل (109 وبعد)، وانظر: مسند الإمام أحمد (ط الرسالة (32/ 293) و (42/53)، وإرواء الغليل (6/70) والصحيحة (4/ 561/ 1928) للألباني].
وقال ابن حجر في الفتح: (والحق أنَّ المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة : الذي ينشأ عن طعن الجن فيهيجُ بذلك الطعن: الدَّم في البدن فيقتُل . فهذا لم يدخُل المدينة قط).
قال ابنُ القيم رحمه الله: في زاد المعاد (4/ 35): (الطاعون - من حيث اللغة - نوع من الوباء، قاله صاحب الصحاح. وهو عند أهل الطب: ورم رديء قتال يخرج معه تلهُّب شديد مؤلم جدًّا يتجاوز المقدار في ذلك، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر، أو أكمد ويؤول أمره إلى التقرح سريعًا. وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع : في الإبط وخلف الأذن والأرنبة وفي اللحوم الرخوة.
ولما كان الطاعون يكثر في الوباء، وفي البلاد الوبيئة، عبر عنه بالوباء، كما قال الخليل: الوباء : الطاعون ، وقيل: هو كل مرض يعم. والتحقيق أن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصُوصًا ، فكلُّ طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا. وكذلك الأمراض العامة أعمّ من الطاعون فإنه واحد منها).
فتلخَّص مما سبق: أن مكة يمكن أن يدخلها الوباء والطاعون إذا أراد الله، وأن الطاعون لا يدخل المدينة، وقد يدخلها الوباء. نسأل الله تعالى بمنه وكرمه ولطفه وإحسانه أن يسلم الحرمين وأهلها من كل وباء وبلية.
وقد علَّق بعض العلماء على هذه الخصوصية للمدينة.
فقال بعضُ العلماء: (هذا من المعجزات المحمديَّة، لأنَّ الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجَزوا أنْ يدفعوا الطاعون عن بلدٍ، بل عن قريةٍ !! وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدُّهور الطويلة) نقله ابن حجر في الفتح.
وقال ابن عبدالبر في التمهيد (16/ 180): (وفي هذا الحديث دليل على فضل المدينة إذ لا يدخلها الطاعون ولا الدجال وأنه يطأ الأض كلها ويدخلها حاشا المدينة).
وقال ابنُ بطال في شرح صحيح البخارى (4/551): (وهذا فضل عظيم للمدينة. وقد أخبر الله تعالى أنه يوكل الملائكة بحفظ من شاء من عباده من الآفات والعدو والفتن، فقال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد: 11] يعنى: بأمر الله لهم بحفظه، وما زالت الملائكة تنفع المؤمنين بالنصر لهم والدعاء والاستغفار ويستغفرون لذنوبهم).
وقال النووي في شرح مسلم : (وفي هذا الحديث فضيلة المدينة وفضيلة سكناها وحمايتها من الطاعون والدجال).
وقال ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (32/ 416): (وفي حديث أبي هريرة وأنس فضل المدينة وأنها خُصَّت بهذه الفضيلة -والله أعلم- لبركة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه لها).
كتبه:
أبو محمد عبد الله بن لمح الخولانـي
مكة المكرمة